الذكاء الاصطناعي يكشف أسرار معالجة الدماغ للغة في المحادثات اليومية

 تمثل اللغة واحدة من أعقد المهارات البشرية، إذ تتطلب تفاعلًا معقدًا بين مناطق الدماغ المختلفة لتحويل الأفكار إلى كلمات مفهومة. ورغم الجهود البحثية المستمرة، كان العلماء يدرسون اللغة باعتبارها مجموعة من العناصر المنفصلة مثل الأصوات والقواعد والمعاني، دون وجود نموذج موحد يدمجها جميعًا.  

ولكن مع تطور الذكاء الاصطناعي، تمكن الباحثون من الاقتراب أكثر من فك شفرة هذا اللغز المعقد. فقد استخدم فريق علمي تقنية التخطيط الكهربائي للدماغ (ECoG) بالتزامن مع نماذج التعلم العميق، لدراسة كيفية معالجة الدماغ للكلام أثناء المحادثات اليومية.  

نموذج الذكاء الاصطناعي يكشف أسرار الدماغ  

استعان الباحثون في دراستهم بنموذج الذكاء الاصطناعي Whisper، الذي طورته OpenAI، والمُصمم لتحويل الصوت إلى نص بدقة عالية. وبدلًا من الاعتماد على تشفير محدد لخصائص اللغة، يعتمد هذا النموذج على تحليل إحصائي شامل للملفات الصوتية ونصوصها المكتوبة، مما أتاح له التنبؤ بالنشاط العصبي أثناء التحدث والاستماع.  

المثير في الدراسة أن Whisper لم يكن مبرمجًا مسبقًا بأي قواعد لغوية، ومع ذلك، أظهر قدرة تلقائية على استيعاب الهياكل اللغوية بعد التدريب، ما يعكس تشابهه مع الدماغ البشري في تعلم اللغة.  

كيف استُخدمت تقنية الذكاء الاصطناعي؟  

شملت الدراسة أربعة أشخاص مصابين بالصرع، كانوا يخضعون لعمليات زرع أقطاب كهربائية في الدماغ لأغراض طبية. وبموافقتهم، جرى تسجيل محادثاتهم بالكامل أثناء إقامتهم في المستشفى، حيث بلغ إجمالي التسجيلات أكثر من 100 ساعة.  

تم تجهيز المشاركين بعدد من الأقطاب الكهربائية يتراوح بين 104 و255 قطبًا، ما سمح بقياس النشاط العصبي بدقة أثناء التحدث والاستماع. ثم استخدم الباحثون 80% من التسجيلات الصوتية ونسخها النصية لتدريب نموذج الذكاء الاصطناعي، وبعد ذلك، قاموا بتحليل كيفية تطابق تمثيلات النموذج مع النشاط العصبي المسجل.  

نتائج مذهلة حول آلية عمل الدماغ  

أظهرت الدراسة أن مناطق معينة في الدماغ تنشط وفق تسلسل محدد أثناء فهم اللغة، حيث أظهر التلفيف الصدغي العلوي نشاطًا قويًا عند استقبال المعلومات السمعية، بينما كان التلفيف الجبهي السفلي أكثر نشاطًا عند تفسير المعاني. كما كشفت الدراسة عن أنماط غير متوقعة للنشاط العصبي، تدعم فكرة أن الدماغ يعتمد على نهج موزع في معالجة اللغة.  

الأمر اللافت أن نموذج Whisper تمكن من محاكاة هذه العمليات العصبية بدقة تفوق النماذج التقليدية، ما يشير إلى أن الذكاء الاصطناعي قد يقترب أكثر من فهم آلية عمل الدماغ البشري.  

تأثيرات مستقبلية واعدة  

هذه الدراسة تمثل خطوة مهمة في ربط الذكاء الاصطناعي بعلم الأعصاب، حيث يمكن أن تساهم في تطوير:  

• تقنيات مساعدة للأشخاص ذوي صعوبات التواصل، مثل مرضى اضطرابات النطق والسمع.  
• تحسين دقة نماذج الذكاء الاصطناعي في التعرف على الكلام ومعالجة اللغة الطبيعية.  
• فهم أعمق للإدراك البشري، ما قد يفتح المجال أمام تطوير واجهات دماغية ذكية لربط الإنسان بالحاسوب.  

الذكاء الاصطناعي والدماغ البشري: تشابه غير متوقع  

يرى الخبراء أن هذا البحث يوضح وجود تشابه بين الطريقة التي يعالج بها الدماغ اللغة وكيفية تعلم النماذج اللغوية الضخمة. ومع ذلك، يؤكد الباحثون الحاجة إلى مزيد من الدراسات للتأكد من مدى تطابق هذه الآليات بين الدماغ والذكاء الاصطناعي.  

في النهاية، تؤكد هذه الدراسة أن اللغة ليست مجرد مجموعة من القواعد، بل هي نظام متكامل ومعقد، سواء في الدماغ البشري أو في الذكاء الاصطناعي، مما يفتح الباب أمام آفاق جديدة في فهم العقل البشري والتكنولوجيا الحديثة.