أواخر يناير من العام 1986 كنت طفل في الرابعة من عمري، حينما قررت أسرتي الرحيل عن عدن تحت وطأة التهجير القسري حينها.
أجبرتنا الظروف على ان نغادر “عدن” مثلما غادرها الآلاف من أبناء الجنوب على فترات متعددة.
على كتفه حملني رجل في العقد الرابع من عمره ، يتولى تهريب الجنوبيين إلى الشمال يومها واجتاز بي عقبة ثرة الشهيرة بمديرية لودر بمحافظة أبين.
وسط عتمة الليل تلمسنا طريقنا صوب محافظة البيضاء.
بعد يوم سفر وصلنا إلى تعز ، لااتذكر التفاصيل يومها بدقة لكنني أتذكر السنوات اللاحقة.
عشنا في حي المسبح بتعز ملوك متوجين في ارض ليست أرضنا وبين اناس ليسوا من اهل مدينتنا.
كنا غرباء لكن اهل الارض لم يشعرونا قط بشيء من هذا.
تملكنا كل شيء، وعمل والدي في التجارة وتفوق ولم يضايقه قط احد.
ودسنا فوق اكبر كبير وبالحق، وطوال السنين الممتدة من 1986 و1991 يشهد الله انه لم يتعرض لنا احد .
لم يسألنا احد قط من أنتم؟
ماجاء بكم؟
وماذا تريدون مننا؟
أبدا والله عشنا حياة الملوك، حتى اننا نتذكر هذه السنين بحسرة.
درست في مدرسة الثورة وسط تعز صفوف دراستي الأولى وبين ضربة علي والمسبح وأحياء أخرى تنقلت أسرتي.
عشنا بين الناس كأننا منهم .
شاركناهم أفراحهم وأحزانهم..
وحينما قررنا الارتحال، قلبنا دفاتر الذكريات فلم نجد موقفا واحد مسيئا لنا بشيء.
ومرت سنين طويلة لكن لايزال لتعز ذكراها الطيبة واهلها في قلوبنا.
في صنعاء سكنت أسرة جدي العميد صالح القاضي لزرق وهو قائد كبير في الجيش وهو الرجل الذي قاد قوات الجيش خلال أزمة جزر حنيش.
عاشت الاسرة في صنعاء لسنوات طويلة حتى ظننا أنهم نسونا.
وطوال كل هذه السنوات ماتعرضوا لمظلمة أو سوء تعامل من حد.
وتوفي جدي وظلت الاسرة هناك حتى اندلعت الحرب الأخيرة وقرر “ابنه الأوسط” جلال ان يلتحق بالمقاومة قائدا لسلاح المدفعية في عدن.
وظل جلال يحارب في “عدن” واسرته في صنعاء واهله في صنعاء ونال الحوثيين مانالهم منه في عدن .
وعلم الحوثيون بوجود أسرته في صنعاء لكنهم لم يتجرأوا قط على المساس بها.
ومع إنتهاء الحرب في عدن ارسل جلال شقيقه قاسم إلى صنعاء لنقل الأسرة إلى عدن وغادروا بهدوء وسلام واستقروا في عدن.
والقصة الثالثة هي لقريبة لي تعمل معلمة في صنعاء .
سألتها قبل عام .
مايبقيك يا أختاه في صنعاء ولا راتب ولا يحزنون ؟
قالت :” أما الإيجار فصاحب البيت عفى عنه وأما المصاريف فاهل الحي تكفلوا بمساعدتنا رغم عوزهم وفقرهم ، وأنا آمنة في صنعاء وسيفرجها ربك.
وأنا استرجع كل هذه الوقائع وهي تمر أمام ناظري كشريط ذكريات مثخن بالجراح وارى ما اراه اليوم في عدن من تنكيل بالبسطاء، يؤلمني قلبي وينفطر.
حاشا لله أن نبرر لأفعال كهذه .
وحاشا لله أن نقف في صف أي ظالم.
وأن ارادوا أن ينكلوا بنا ويقتلونا فليتفضلوا فو الله مانسينا معروفا اسدي لنا ولا كلمة طيبة ولو ندفع لها أرواحنا ثمنا على أن نقبل أن نولغ في دماء الناس وحقوقها ظلما وعدوانا.
ليس بيدي شيء ، لكنني وددت التذكير لمن له عقل أن عشرات الآلاف بل مئات الآلاف من الجنوبيين عاشوا في الشمال من عقود وحتى اليوم معززين مكرمين لم يمسهم أحد ولم يداس لهم على طرف.
و اؤكد لكم أنهم سيعيشون اليوم وغدا وبعد غد معززين مكرمين.
و كلمتي الاخيرة لاخوتي من أبناء المحافظات الشمالية وأنتم تستعرضون مثل هذه الأفعال لاتأخذوا الجنوبيين بها ولاتقولوا الجنوبيين ولا تعمموا فهذا فعل منكر لن يقبل به عاقل وإنسان مسلم.
وإلى كل يمني مظلوم أدعوه لتكرار دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما تعرض للأذى.
(اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس ، يا أرحم الراحمين ، أنت رب المستضعفين ، وأنت ربي ، إلى من تكلني ؟ إلى بعيد يتجهمني ؟ أم إلى عدو ملكته أمري ؟ إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي ولكن عافيتك هي أوسع لي ، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات ، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن تنزل بي غضبك أو يحل علي سخطك ، لك العتبى حتى ترضى ، ولا حول ولا قوة إلا بك) .
وأسال الله السلامة للبلاد والعباد.